صياغة الدساتير - المبادئ الدستورية وفن الصياغة

أولا – أهمية البحث
تثور انتقادات عديدة حول إسباغ الأهمية الاستثنائية لموضوع صياغة الدستور و يقول المعترضون ان جوهر الدستور هو الموضوع لا الشكل و ان اللغة البسيطة المعتادة كافية لكتابة دستور عصري يفي بالغرض.
لكن التجارب العملية أثبتت خطأ هذا الكلام , لأن لصياغة الدستور أهمية كبرى تتبدّى : في ضرورة إنتاج تشريع متطور يتسم بالوضوح و الدقة و التناسق , و يكون مفهوما من العموم , سهل التفسير والتطبيق.
ونظرا لسموّ النص الدستوري فإن صياغته تتطلب كتابة متأنية لإنتاج نصوص جامعة مانعة بعيدة عن الغموض قطعيّةَ الدلالة.
كما أن سلامة الجانب الشكلي للدستور ينعكس على سلامة المضمون مما يؤدي لسهولة الفهم ويسر التطبيق.
فما تعريف الصياغة ؟
هي عملية تحويل القيم المكونة لمادة الدستور إلى مواد دستورية صالحة للتنفيذ . و هي التي تحيل القاعدة القانونية من فكرة صماء الى قاعدة تنبض بالحياة و تصلح للتطبيق العملي.
ثانيا – متطلبات الصياغة الدستورية
تحرص الدول الحديثة على إعداد كوادر متخصصة بالصياغة وكيفية بناء المادة القانونية والدستورية والمراحل التي تمر بها ولادة النصوص التشريعة, إن توفير الكوادر البشرية المناسبة يعتبر تحديا تعاني منه الكثير من الدول مع انعدام مراكز الأبحاث القانونية وقواعد البيانات المتكاملة لتشريعات الدولة.
ومن مقتضيات الاصول الحديثة للصياغة القانونية الاطلاع على تجارب الدول الحديثة في كتابة دساتيرها و ذلك مراعاة للاتجاه العالمي الحالي في توحيد القوانين و المصطلحات العالمية و ليكون سياق الدستور منسجما مع القيم الواردة بالقوانين و الاتفاقيات الدولية.
و لا يخفى أن اعتماد المكلف بالصياغة على خبراته الشخصية يتنافى مع فكرة (الآلية الموحدة للصياغة) وهذا ما يؤدي لنتائج لا تتسم بالإنسجام.
ثالثا – الأساسيات الهيكلية للصياغة الدستورية
و يجب أن تشتمل على المفاصل الرئيسة التالية :
- أمر الإصدار أو التكليف: وهو مستند التفويض الذي يخول اللجنة كتابة الدستور سواء كان مرسوما رئاسيا أو تكليفا برلمانيا أو غير ذلك.
- الديباجة: وهي المقدمة التعريفية للدستور التي تحدد أهدافه وأحكامه العامة وتكتب غالبا على شكل سرد وأحيانا على شكل فقرات.
- التعريفات: إن من المجدي أن ترد في بداية الدستور تعريفات للمصطلحات الأساسية التي سيتكرر ورودها في النص ليكون المصطلح منضبطا لا يحتمل التأويل, ومفهوما لا يحتاج للتفسير و موجزا يتلافى الإطالة.
- الأحكام العامة والموضوعية والختامية : وهو مجمل المواد الدستورية التي تشكل جسم الدستور.
- التقسيمات الرئيسية والفرعية للفصول والأبواب والفقرات: في الصياغة المنهجية يتم تحديد الطريقة التي ستتبع في تبويب وتصنيف مواد الدستور.
- أحكام النفاذ والتطبيق :لتحديد آجال التصويت على الدستور ومواعيد نفاذه وسريان أحكامه.
رابعا : صفات النص الدستوري
الوضوح:
بحيث تؤدي قراءة المادة الدستورية دوما إلى نفس الفهم كائنا من كان القارئ, وعليه يفترض بلجنة الصياغة أن تتمتع بمهارات فائقة للتنبؤ بالمعاني التي يمكن أن تخطر ببال القراء بمختلف درجاتهم. إن سر نجاح لجان الصياغة يكمن بالمهارة بتركيب الجملة التي لا تقبل إلا معنى واحدا هو الذي توافق عليه واضعو الوثيقة الأولى.
الإنسجام والمتانة :
إن المادة الدستورية الصالحة هي المتناسقة والخالية من التناقض والتكرار فلا يجوز مثلا ورود مادة دستورية تتناقض مع المبادئ الواردة بالديباجة, كما لا يجوز استعمال المصطلح بأماكن مختلفة للدلالة على معان مختلفة. إن انسجام المادة الدستورية يتطلب الحذر من إدخال التغييرات على بعض الأحكام بالمراحل الأخيرة. لقد ثبت أن الاستعانة بلجان عديدة للصياغة يؤدي لسوء انجاز العمل وانعدام التنسيق نظرا لتباين أساليب عمل كل منهم. ومن أنجع الحلول لهذه المشكلة : اللجوء إلى عدد صغير من خبراء الصياغة ومن ثم تكليف شخص واحد لكتابة الصياغة الأخيرة لمشروع الدستور.
خامسا : القواعد اللغوية للصياغة السليمة:
يتمثل الهدف النهائي للصياغة الدستورية بإنتاج مادة دستورية تتصف بالتحديد والدقة والإيجاز والوضوح, ولعل القواعد اللغوية التالية تساعد الصائغ لتحقيق ذلك:
- تجنب الألفاظ الغامضة والملتبسة (حمّالة الأوجه).
- الحرص على استعمال الكلمة نفسها للمفهوم ذاته, والبحث عن الكلمة المختلفة للمفهوم المغاير.
- الإيجاز والابتعاد عن الإسهاب.
- استخدام المصطلحات بالقوانين الأخرى التي تتم الإحالة إليها دون أي تحوير .
- تجنب العبارات الإنشائية التي تتميز بالإطناب والإسهاب بالوصف والتقعر اللغوي المثير للالتباس.
- استخدام واو العطف وحرف (أو) بعناية فائقة.
- استخدام الجمل القصيرة للمادة التشريعية.
- استخدام البنود بشكل واضح ومفهوم وعدم فتح أرقام للبنود الفرعية قبل الانتهاء من الترقيمات السابقة (لأن العرض المحكم مرهون بالتبويب السليم)
- استخدام الإثبات والابتعاد عن النفي.
- وضع المفهوم الأكثر أهمية بنهاية الجملة بشكل قاطع لا يترك مجالا للاجتهاد.
- إحكام علامات الترقيم في مواضعها و الترتيب المنطقي للتراتيب واستخدام الضمائر بعناية ودقة.
- الالتزام بحرفية المصطلحات التشريعية بتوحيد المصطلحات التي تؤدي نفس المعنى.
- عدم الإسراف بإيراد التعاريف.
سادسا : عيوب الصياغة اللغوية في بناء الجملة القانونية
- استخدام الجمل الطويلة والتراكيب المعقدة التي تثير الالتباس.
- ازدحام الجملة بتراكيب متناقضة يصعب معها فهم أجزاء الجملة.
- التباعد بين أجزاء الجملة لأن الأصل أن يكون الفعل متلازما مع الفاعل والصفة تالية للموصوف, أما التباعد فهو يؤدي لضياع المعنى.
- التكرار المعيب الذي يخلّ برصانة التراكيب.
سابعا : العقبات التي تواجهها لجان الصياغة
على لجنة الصياغة أن تكون على دراية تامة بالمضامين الدستورية المتوافق عليها. يجب أن تتحدد الآلية التي تتلقى بها لجنة الصياغة التعليمات والمضامين. كثيرا ما تضطر لجان وضع الدستور لإدخال تعديلات اللحظات الأخيرة إرضاء لبعض القوى السياسية, لذا يتوجب الحذر من التعديلات التي تدخل على مشروع الدستور في اللحظة الأخيرة دون تروّ مما يؤثر على تناسق الدستور وإمكانية نفاذه . الحذر من خطر فقدان النسخة النهائية للوثيقة الدستورية لأنها المرجع لحل كل خلاف حول صحة التعديلات المتوافق عليها.
ثامنا : التزامات أعضاء لجنة الصياغة
إن مسؤولية هؤلاء لا تقتصر على شكل النص الدستوري فحسب, إنما تتعدى ذلك إلى الموضوع.
كما أن اللجنة ملزمة بالتقيد بحدود التوكيل الممنوح لهم وأن لا يتجاوزوا حدود التفويض.
ومن نافلة القول التذكير بواجب العناية الفائقة بإنجاز عملهم وواجب السرية في العمل وعدم تسريب أيّة معلومة أثناء التنفيذ.
تاسعا : آلية عمل لجان الصياغة
تبنى هيكلية الجمعية التأسيسية لوضع الدستور على أساس توزيع المهام بين اللجان الفرعية المتعددة بهدف التخصص وتوزيع الأعباء واختصار الزمن. وتختص كل لجنة بأحد أبواب الدستور حيث تخرج بمقرراتها تباعا, فتحيل هذه المقررات إلى أمانة السر العامة التي تتلقى المقررات من كافة اللجان, وتجمعها وتنسق محتواها وتقوم بتسليمها إلى لجنة الصياغة وتبدأ لجنة الصياغة بمعالجة هذه المقررات وفق تقنيات وآليات الصياغة الفنية.
وإن من المفيد في هذا السياق التذكير بما يلي :
- ضرورة وجود بروتوكول أو نظام داخلي ينظم عمل هذه اللجان وفق قواعد دقيقة تحدد حالات تدخل لجان الصياغة في عمل اللجان الفرعية وكيفية التعاطي مع المقترحات.
- إن أمانة السر العامة هي المسؤولة عن حفظ المقررات والمخرجات التي تتلقاها من اللجان الفرعية ومن واجبها الاحتفاظ بنسخ عن هذه المقررات ليتم الرجوع إليها في حال فقدان أيّ منها.
كلمة أخيرة
ان الصياغة الدستورية صناعة احترافية تتكون خامتها من الإلمام بكل مصادر القانون إضافة للفهم العميق لكل مصطلحات القانون , و الصائغ الحاذق هو الذي يتولى تحويل المبادئ الدستورية المتوافق عليها إلى بنود و مواد مبسطة قابلة للفهم و التطبيق .
المحامي أحمد صوان – 5- تموز- 2015
المراجع
- الاتجاهات الحديثة في صياغة مشاريع القوانين . د .محمود صبرة .
- غموض النصوص الدستورية و تفسيرها –د . أحمد عزي النقشبندي .
- فن الصياغة القانونية د . عبد القادر الشيخلي .
✍️الكاتب: المحامي أحمد صوان
🗓️تاريخ النشر: 27/05/2016